الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به} إنه أخذ عثكالاً من النخل. وروي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل. وقال ابن مقبل: ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها: ضغث على إمالة.{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}: لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها. أرى: يعني في منامه، ودل على ذلك: أفتوني في رؤياي. وأرى حكاية حال، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت. وسمان صفة لقوله: بقرات، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن. ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به، لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً. وفرق بين قولك: عندي ثلاث رجال كرام، وثلاثة رجال كرام، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام. والمعنى في الثاني: ثلاثة من الرجال كرام، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم. ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، إنما تتبعه الصفة. وثلاثة فرسان، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء. ودل قوله: سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات، كأنه قيل: سبع بقرات عجاف، أو بقرات سبع عجاف. وجاء جمع عجفاء على عجاف، وقياسه عجف كخضراء أو خضر، حملاً على سمان لأنه نقيضه. وقد يحمل النقيض على النقيض، كما يحمل النظير على النظير. والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله: وأخر يابسات، لدلالة قسميه وما قبله عليه، فيكون التقدير: وسبعاً أخر يابسات.ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات، فإنه كان يصح العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات. والملأ: أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك. وقرأ أبو جعفر: بالإدغام في الرؤيا، وبابه بعد قلب الهمزة واواً، ثم قلبها ياء، لاجتماع الواو والياء، وقد سبقت إحداهما بالسكون. ونصوا على شذوذه، لأن الواو هي بدل غير لازم، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول: زيد ضارب لعمر وفصيحاً. والظاهر أن خبر كنتم هو قوله: تعبرون. وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها: أن تكون الرؤيا للبيان قال: كقوله: وكانوا فيه من الزاهدين، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها. والثاني: أن تكون الرؤيا خبر كان قال: كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً. والثالث: أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط، فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها. وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو المشهور، وأنكر بعضهم التشديد، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر: وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام، وهي ما يكون من حديث النفس، أو وسوسة الشيطان، أو مزاج الإنسان. وأصله أخلاط النبات، استعير للأحلام، وجمعوا الأحلام. وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً واحداً، تعليقاً بالجنس. وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها. والأحلام جمع حلم، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هي أضغاث أحلام. والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي: لسنا من أهل تعبيير الرؤيا. ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي: وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي: لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك، لأنه لا تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح، ولا تصور علمهم. والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين.
قال الأعلم: الأمة النعمة، والحال الحسنة. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عمرو: بعد أمه بفتح الهمزة، والميم مخففة، وهاء، وكذلك قرأ ابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم. وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد، وشبيل بن عزرة: بعد أمه بسكون الميم، مصدر أمه على غير قياس، وقال الزمخشري: ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى. وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى القراء. أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي. وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان، وكذا في الإمام. وفي مصحف أبي: فأرسلون، أي ابعثوني إليه لأسأله، ومروني باستعباره، استأذن في المضي إلى يوسف. فقال ابن عباس: كان في السجن في غير مدينة الملك، وقيل: كان فيها، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال. وفي الكلام حذف التقدير: فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال: والصديق بناء مبالغة كالشريب والسكير، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وقوله: لعلي أرجع إلى الناس أي: بتفسير هذه الرؤيا.واحترز بلفظة لعلي، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم. وقوله: لعلهم يعلمون، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا. وقيل: لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك، فتكون لعل كالتعليل لقوله: أفتنا. قال: تزرعون إلى آخره، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول: أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ. والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: فذروه في سنبله. والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة. قال ابن عطية: ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع، ومعلوم أنه الأخصب انتهى. والظاهر أن قوله: تزرعون سبع سنين دأباً خبر، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد. وقال الزمخشري: تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمن قوله: فذروه في سنبله انتهى. ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين. وأما قوله: فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه. ومعنى دأباً: ملازمة، كعادتكم في المزارعة. وقرأ حفص: دأباً بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي: تدأبون داباً، فهو منصوب على المصدر. وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء. وقيل: مصدر في موضع الحال أي: دائبين، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون. وما في قوله: فما حصدتم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإذا بقيت فيها انحفظت، والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر. وقرأ السلمي: مما يأكلون بالياء على الغيبة أي: يأكل الناس، وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي: سبع سنين شداد، لدلالة قوله: سبع سنين عليه. وأسند الأكل الذي في قوله: أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال: {والنهار مبصراً} ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ. وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور: يغاث من الغيث، وقيل: من الغوث، وهو الفرج. ففي الأول بني من ثلاثي، وفي الثاني من رباعي، تقول: غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث. وقرأ الأخوان: تعصرون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه، لأنه عصر للضروع.وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب. وقال أبو عبيدة وغيره: مأخوذ من العصرة، والعصر وهو المنجي، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه: فالمعنى: ينجون بالعصرة. وقرأ جعفر بن محمد، والأعرج، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول، وعن عيسى أيضاً: تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول، ومعناه: ينجون من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: يغاث الناس. وقال ابن المستنير: معناه يمطرون، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم، وهو للماء الذي يمطرون به. وحكى النقاش أنه قرئ يعصرون بضم الياء وكسر الصاد وشدّها، من عصر مشدّداً للتكثير. وقرأ زيد ابن علي: وفيه تعصرون، بكسر التاء والعين والصاد وشدها، وأصله تعتصرون، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، واتبع حركة التاء لحركة العين. واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه. ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر: أي نجاتي. تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي. وعن قتادة: زاده الله علم سنة، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب.
|